مجتمع

نشوة الحرية لا تكفي: تحديات سوريا ما بعد سقوط الأسد

ما التحديات التي تواجه سوريا بعد سقوط بشار الأسد؟ وما الذي يعتمد عليه تحقيق الاستقرار ونجاح المرحلة القادمة؟

future صورة تعبيرية (نشوة الحرية لا تكفي: تحديات سوريا ما بعد سقوط الأسد)

بعد قرابة 14 عاماً من اندلاع المظاهرات المطالبة بالحرية في سوريا، يجد السوريون أنفسهم على أعتاب مرحلة جديدة ومفصلية في تاريخهم، تتمثل في سقوط سريع ومدوٍّ لمنظومة الحكم المنخورة ولمؤسسات الجيش والدولة المتهالكة بعد عقود من الفساد وبعد أكثر من عقد على إطلاق يد المتنفعين دون قيد أو شرط.

نظام حكم أثخن في جراح الناس بالقتل الجماعي والتهجير والتجويع والإخفاء القسري، وبعد أن فرغ نصف البلد من ساكنيه. أتَى هذا التحول المرتقب على يد هيئة تحرير الشام (هتش)، فصيل عسكري بدأ ذراعاً لمشروع جهادي عالمي مرتبط بتنظيم القاعدة، وشهد تحولات نحو خطاب أكثر اعتدالاً وأكثر محلية، دون أن يفقد سمْته العسكري والفكري بالضرورة.

بفض هذه التطورات وجد أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني سابقاً) القائد الحالي للتنظيم نفسه منفرداً في ساحة العمل ما بعد سقوط النظام، بعد أن فشلت كل الهيئات السياسية والعسكرية الأخرى في بناء قاعدة شعبية أو إحراز أية انتصارات منذ تشكلها. ما يعمق أزمة كل من المعارضة السورية التقليدية وهيئة تحرير الشام؛ المدرجة على قوائم الإرهاب حالياً؛ فيما يخص خياراتهم ما بعد سقوط الأسد.

الفرح الذي يعم غالبية السوريين اليوم مستحق ولازم، فما شهدوه في الأعوام الـ 14 الماضية - والأربعين عاماً التي قبلها – يستأهل دموع الفرح التي لم تفارق محيَّا الكثيرين خلال الأسبوع الماضي. لكن هنالك استحقاقات قادمة يجب البدء في التفكير الجاد فيها.

إن حالة النشوة التي أصابت عموم السوريين جراء التغير غير المتوقع والسريع للنظام الشمولي الذي قهرهم لن تطول بعد سقوطه، فهنالك العديد من التحديات والمخاطر التي سوف تواجهها سوريا عقب وقوع هذا التغيير، كذلك فإن عدة ملفات شائكة ومهملة سوف يأتي استحقاقها. هذه المقالة هي مراجعة سريعة لبعض أهم هذه التحديات العاجلة.

أولاً: التحديات الاقتصادية

1. انهيار العملة المحلية: شهدت الليرة السورية فقدان أكثر من 99% من قيمتها في السنوات العشر الأخيرة لتصل من 48 ليرة مقابل الدولار إلى حوالي 15,000 ليرة أمام الدولار الأمريكي الواحد. ومع بداية الحراك العسكري المتمثل في عملية ردع العدوان وصلت أسعار الصرف في السوق السوداء إلى أكثر من 24,600 ليرة سورية مقابل الدولار، لتصل إلى 37 ألف ليرة سورية إبان دخول دمشق. إلا أن سعر الصرف هذا ما زال أعلى من التوقعات، فرغم كل الخسارات التي تحققها الليرة السورية والاقتصاد بشكل عام، فإن قيمة صرف الليرة السورية ما يزال مصطنعاً ومتحكماً به من قبل الدولة عبر ضبط رأس المال الصارم الذي كانت تقوم به الحكومة السورية، عبر فرض استخدام الليرة السورية حصراً في كل النشاطات الاقتصادية داخل البلد.

من المتوقع أن تشهد أسعار صرف الليرة السورية انهيارات متسارعة توصلها إلى أكثر من 50 ألف ليرة سورية مقابل الدولار الأمريكي، مع احتمال وصولها إلى مستوى أقل من سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار (والتي تبلغ 90 ألف ليرة لبنانية لكل دولار واحد). مما سيفاقم من المشاكل الاقتصادية الداخلية وسيزيد من الاعتماد على العملات الأجنبية في التعامل في السوق المحلي لشهور وسنوات قادمة، مضاعفة في ذلك من تراجع الليرة السورية مقابل العملات الأجنبية.

2. انهيار المقدرات الإنتاجية للاقتصاد: منذ 2011 قام النظام السوري بضرب جميع قطاعات الإنتاج في الدولة. بدأت بالقطاع الزراعي الذي تم تهجير الغالبية العظمى من سكان أقاليمه، وضرب شبكات الري وتسميم الأراضي بسبب الأسلحة المستخدمة، تحولت سوريا بعدها من دولة مصدرة للغذاء إلى مستوردة للحبوب والخضار عبر الدول التي كانت تصدر لها.

أما القطاع الصناعي فتلقى ضربات متتالية من الابتزاز المتكرر لأصحابه ورفع كلفة المواد الأولية والطاقة عليه، إلى الإتاوات الفاحشة، فالعقوبات الدولية على التصدير والاستيراد، نهاية بمصادرة العديد منها ووضعها في يد ضباط ومقربين من النظام دمروا المنشآت وصهروا المعدات الصناعية لبيعها وإعادة استخدام النحاس والحديد والمعادن فيها. أما قطاع الخدمات فقد كان أول من تلقى ضربة في مقتله منذ اندلاع المظاهرات إلى اليوم، دون وجود مؤشر على تعافٍ سريع لأي من هذه القطاعات في الأمد القصير.

3. الفقر والبطالة: يعاني معظم السكان من الفقر المدقع والبطالة نتيجة سنوات طويلة من الصراع وتدمير المؤسسات الإنتاجية والزراعية والصناعية. إعادة توفير فرص العمل وتحسين الدخل سيحتاج وقتاً واستثمارات كبيرة. وفي هذه الأثناء سوف تظل نسب البطالة مرتفعة والأجور المحلية متدنية إلى أن يبدأ الاقتصاد بالتعافي وتتم إعادة تأهيل قطاعاته الإنتاجية.

4. إعادة الإعمار: تعرضت البنية التحتية السورية لدمار هائل خلال الحرب، بما في ذلك الطرق، والمستشفيات، والمدارس، ومحطات الطاقة. تقديرات إعادة الإعمار تصل إلى مئات المليارات من الدولارات، وهو عبء يتجاوز قدرة الاقتصاد السوري الحالي. كما أنه عامل يحد من قدرة البلد على التعافي بشكل كبير. لذلك يجب أن يكون ضمن أولويات المرحلة القادمة، لكن حسابات تأخر ظهور مردودها الاقتصادي يجب أن يكون بحسبان المانحين والحكومة القادمة على حد سواء.

5. الفساد المؤسسي: انتشر الفساد بشكل واسع خلال حكم الأسد، وسيكون القضاء عليه وإعادة بناء مؤسسات اقتصادية نزيهة وشفافة تحدياً رئيسياً. فهو العامل الأهم في تحديد ثقة المستثمرين من الداخل والخارج.

6. الديون الخارجية والعقوبات: ترتبت على النظام السوري ديون خارجية كبيرة، بالإضافة إلى تأثير العقوبات الدولية التي قد تستمر في الفترة الانتقالية، مما يحد من قدرة الدولة على جذب التمويل الخارجي.

ثانياً: التحديات المحلية

1. التعايش الاجتماع: أفرزت الحرب نزاعات طائفية وعرقية عميقة بين مكونات الشعب السوري، بما في ذلك العرب والأكراد، السنة والشيعة والمسيحيون وغيرهم. تحقيق المصالحة الوطنية سيكون تحدياً صعباً. وهنالك مخاوف من نشوب حرب أهلية عقب زوال نظام الأسد، أو عمليات انتقامية في الحد الأدنى.

2. اللاجئون والنازحون: تواجه سوريا أزمة وجود ملايين السوريين لاجئين ونازحين داخلياً، وستكون إعادة توطينهم وضمان احتياجاتهم الأساسية، من سكن، وخدمات صحية، وتعليم، أولوية ملحة. وهي بحاجة إلى استثمارات كبيرة على المدى المتوسط والطويل سوف يكون من الصعب اجتذابها بسبب العوامل التي ذكرنا سابقاً.

3. الفراغ الأمني: انهيار النظام قد يترك فراغاً أمنياً يسمح بظهور جماعات مسلحة وفوضى تؤثر على استقرار البلاد. فمن الحركات الانفصالية في شمال شرق البلاد إلى خلايا داعش النائمة، وصولاً إلى الميليشيات الشعبية الطائفية التي ساندت النظام في معاركه في السابق من داخل سوريا، هذا بالإضافة إلى مسلحين من حزب الله وميليشيات الحشد الشعبي العراقية.

هنالك ضرورة ملحة لتأسيس جيش وطني وأجهزة أمنية احترافية كضرورة لتفادي هذه المشكلة. وعلى الرغم من السجل الجيد لهيئة تحرير الشام في ضبط الأمن في المناطق التي سيطرت عليها، فإن تكرار التجربة على كامل الجغرافيا السورية على تنوعها سوف يكون تحدياً كبيراً.

4. الاحتراب الداخلي: ويعتبر بنظري أخطر التحديات المحدقة في الواقع السوري حالياً. فقد نشأت خلال الـ 14 سنة الماضية مئات الفصائل المسلحة على طرفي النزاع، تجاوزت الألف في ذروتها، قبل أن يندمج بعضها ويُدحَر بعضها الآخر.

ومع ذلك، فإن الخريطة السورية اليوم ما زالت مقسمة إلى مناطق نفوذ بين عدد من هذه الفصائل. فلدينا في الشمال الشرقي قوات سوريا الديمقراطية التي تسعى إلى حفظ استقلالها واستقلال الإقليم التابع لها ما أمكن. أما الشمال الغربي ففيه الجيش الوطني السوري المدعوم من تركيا، بالإضافة إلى جبهة تحرير الشام، الحاكم الفعلي الحالي للبلاد، وفي الجنوب نجد عدداً من الفصائل المسلحة أبرزها الفيلق الخامس.

أما على طرف النظام السابق فالفرقة الرابعة وقوات الدفاع الوطني أبرزهم، بالإضافة إلى فلول الجيش العربي السوري بعد سقوطه، ولا ننسى وجود تنظيم داعش في عدد من البؤر على الخريطة السورية، وكذلك عشرات الميليشيات والتنظيمات التي أتت من لبنان والعراق وإيران لمساندة النظام قبلاً، ولا يعرف بعد عدد الأفراد التابعين لها والذين لا يزالون داخل سوريا.

وإن تفحصنا جيداً نجد أن الكثير من هذه التنظيمات هي بالأساس جبهات مكونة من عدد من الجهات المتنوعة إلى حد التضارب في توجهاتها، فحتى جبهة النصرة ما زالت تضم مجموعات أكثر راديكالية في مشروعها وأقرب إلى سمت القاعدة وإلى وجوب إقامة الخلافة الإسلامية كما يرونها.

هذا يخلق بيئة خصبة لقيام اقتتال داخلي بين هذه الفصائل وفتح باب حتى للانقلابات الداخلية فيها، مما قد يجر البلاد إلى حرب أهلية وإلى سيناريو تقسيم أكثر تفتتاً مما هو عليه اليوم.

5. إعادة بناء المؤسسات: تفتقد سوريا إلى مؤسسات حكومية فعالة نتيجة تهميشها أو تدميرها خلال الحرب. بناء مؤسسات قادرة على تلبية احتياجات الشعب سيكون ضرورياً للاستقرار. تستغرق هذه العملية في فترة ما بعد الحرب سنوات طويلة تتطلب الكثير من العمل لضبط الفساد وبناء الكوادر، ومن ثم تأهيل المؤسسات تنظيمياً وإدارياً، وذلك يتضمن وجود نظم حوكمة ديمقراطية نزيهة.

6. العدمية، والأناركية، واليأس من المعارضة السورية: لا يخفى على أحد حجم الإخفاقات الكبيرة التي كانت أجسام المعارضة السورية جزءاً منها. وحجم اليأس الشعبي من أن ينتج عن هذه المؤسسات ما هو إيجابي، وفي نفس الوقت فإن هذه المؤسسات مكتظة بالكوادر والمواهب السورية التي سوف تكون ضرورية للمرحلة القادمة. وكذلك فهنالك كفاءات داخل بنية الحكومة الحالية ضرورية ومن الصعب استبدالها. إن إزالة وصمات العار عن هذه الأجسام تحدٍّ كبير وأساسي لخلق مرحلة انتقالية أكثر سلاسة واحترافية.

7. التوقعات غير المنطقية: في هذا الوقت فإن الفرحة الكبيرة بزوال نظام الأسد سرعان ما سوف تنقلب حنقاً على سلطات الأمر الواقع بعدها بسبب ارتفاع سقف المطالب والتوقعات غير المنطقية، وسوف توسع من دائرة الحنق وتزايد في الخيبة. يجب إدارة التوقعات بشكل حذر وإرساء توقعات أكثر منطقية وقابلية للتحقيق، والتحذير من المطبات القادمة، سوف يتزامن هذا التحدي مع تصاعد الخطابات الشعبية التي تريد حشد التأييد ما أمكن بهدف ترجمته إلى مكاسب سياسية، ما يجعل هذه المصارحة أصعب على القيادات السياسية.

ثالثاً: التحديات السياسية الإقليمية

1. دور القوى الإقليمية: تأثرت سوريا بشدة بتدخلات القوى الإقليمية على طرفي النزاع. بعد سقوط الأسد، ستظل هذه القوى تسعى لتحقيق مصالحها، مما سيعقد عملية الاستقرار السياسي والتوافق الوطني اللازم لإعادة بناء الدولة.

2. النزاع مع إسرائيل: تحتل إسرائيل هضبة الجولان منذ عقود، ولا تزال العلاقات معها تشكل تحدياً جيوسياسياً معقداً لسوريا. وبالنظر إلى المقدرات الاستخباراتية العالية والتي برزت في كيفية تخلص إسرائيل من قيادات الصف الأول والثاني في حزب الله خلال أيام، فإن الخطر الإسرائيلي لعله يكون الأكبر على أي نظام ناشئ في سوريا.

3. التفاوض مع الأكراد: الأكراد مكون سوري أصيل، لكن عدداً من تنظيمات الأكراد في شمال سوريا لديها تطلعات للحكم الذاتي أو الانفصال. تحقيق توازن بين مطالبهم والحفاظ على وحدة سوريا سيكون تحدياً سياسياً حساساً.

رابعاً: التحديات الخارجية

1. التعامل مع المجتمع الدولي: سوريا بعد الأسد ستحتاج إلى إعادة بناء علاقاتها مع المجتمع الدولي والمنظمات العالمية، واستعادة عضويتها في الجامعة العربية، وتطبيع علاقاتها مع الدول الغربية. وبما أن هيئة تحرير الشام تتصدر المشهد وهي الأكثر حظاً في نيل المكاسب الكبرى بعد سقوط النظام؛ فإن وضعها كتنظيم مدرج على لوائح الإرهاب سوف يكون عائقاً كبيراً أمام سوريا في ملفات رفع العقوبات وإعادة الإعمار ومنحها.

2. العدالة الانتقالية والمحاسبة: سيكون هناك ضغط دولي ومحلي لتحقيق العدالة الانتقالية ومحاسبة المسئولين عن جرائم الحرب خلال حكم الأسد، وهو ملف معقد يتطلب التوازن بين العدالة والمصالحة.

3. الاعتماد على المساعدات الخارجية: في المدى القريب، ستحتاج سوريا إلى مساعدات دولية هائلة، لكن الحصول على هذه المساعدات مشروط بإصلاحات سياسية واقتصادية قد لا تكون سهلة التنفيذ.

4. تحديات النفوذ الروسي والإيراني: لعبت روسيا وإيران دوراً رئيسياً في دعم الأسد، وقد تسعى كل منهما إلى الحفاظ على نفوذها ومصالحها الاقتصادية والعسكرية في سوريا بعد سقوطه. وعلاقتها مع الشعب السوري ومع فصائل المعارضة ليست جيدة على الإطلاق. ولذا فإن إدارة هذه الملفات المعقدة سوف يستنزف الكثير من الوقت والجهد الذي سوف يأتي على حساب ملفات أخرى أكثر أهمية لتعافي البلد.

في النهاية يجب التأكيد على أن سوريا تواجه بعد سقوط بشار الأسد مجموعة ضخمة من التحديات على جميع المستويات. هذه التحديات مترابطة ومعقدة، مما يتطلب رؤية شاملة وسياسات تنموية طويلة الأمد لتحقيق الاستقرار. نجاح المرحلة القادمة يعتمد بشكل كبير على قدرة الشعب السوري وقيادته المستقبلية على تجاوز الخلافات، وإعادة بناء البلاد على أسس ديمقراطية شاملة تلبي طموحات جميع مكونات المجتمع السوري.

# سوريا # بشار الأسد # مجتمع

وأنت السبب يا ابني: كيف تؤثر الأبوة على أداء اللاعبين؟
شاعرية الحياة العادية
ما الذي يحدث في سوريا؟

مجتمع